رواية فوق جبال الهوان بقلم منال سالم | رحلة ألم وصمود تهز القلوب الفصل الحادي والأربعون

رواية فوق جبال الهوان بقلم منال سالم | رحلة ألم وصمود تهز القلوب الفصل الحادي والأربعون

رواية “فوق جبال الهوان” هي عمل درامي اجتماعي مؤثر من إبداع الكاتبة منال سالم، تأخذنا خلاله في رحلة مشحونة بالمشاعر، ما بين الألم والانكسار، الأمل والتحدي، وسعي الإنسان للنجاة رغم قسوة الواقع. الرواية ليست مجرد قصة، بل صرخة صامتة ضد الظلم، وقصيدة حزينة عن النساء اللواتي يتحملن ما لا يُحتمل.

عن الرواية

بطلتنا تعيش حياة مليئة بالحرمان والخذلان، تسكن في ظلال الألم وتتنقل بين المحن كما لو كانت تعتلي قممًا شاهقة من “الهوان”، لكن رغم ذلك، لا تنكسر. تحمل في قلبها جروحًا دفينة لكنها تختار الصمود. وبين كل انهيار وبداية جديدة، تثبت أن الإنسان قادر على الصعود حتى من قاع العتمة.

الرواية تناقش موضوعات حساسة منها:

  • العنف الأسري
  • القهر النفسي
  • الصراع الداخلي للمرأة

أسلوب منال سالم

تتميز منال سالم بأسلوبها السردي العاطفي والمكثف، حيث تنجح في جعل القارئ يشعر بكل لحظة ضعف وانتصار. وصفها دقيق، ولغتها مشحونة بالمشاعر، وتُبرز من خلالها شخصيات واقعية تواجه الحياة بقوة لا تُوصف.

الفصل الحادي والأربعون

بحركاتٍ عصبية ظل يركل بقدمه الحصوات الصغيرة المنتشرة من حوله، وكأنها وسيلته المتاحة حاليًا للتنفيس عن الغضب الحانق الذي يكبته في صدره. مكالمة أخرى هاتفية تلقاها أثناء تواجده بالقرب من المسجد الصغير وكانت عقب اتصال “وهبة” بقليل، حيث أظهر الرقم الصادح على الشاشة اسم والده، فأجاب “غيث” على الفور وفي توقيرٍ واضح بعدما انتصب في وقفته، وكأنه يظهر احترامه الشديد له في غيابه قبل حضوره:

سلام عليكم، كيفك يا بوي؟ إنت بخير؟

أتاه صوت “زكريا” –والده- يخبره في هدوءٍ:

وعليكم السلام، الحمد لله يا ولدي، إنت فين دلوجيت؟ هتوصل مِتى؟

سكت لهنيهةٍ، كأنما يحسب بحسبةٍ عقلية المدة الزمنية التي تلزمه ليبلغ مشارف بلدته القاصية، ثم تحدث بقدرٍ من التردد المحسوس في نبرته:
-بعد العشا، بس معايا جماعة ضيوف.
سألته مستوضحًا:
-ضيوف؟ مين دول؟
جاء رده غامضًا بعض الشيء:
-حكايتهم إحكاية، بس مكانش ينفع أسيبهم لواحدهم واصل.
تحولت نبرة أبيه للجدية وهو يأمره في صيغة متسائلة:
-في إيه يا ولدي؟ جول اللي حوصل أوام.
قصَّ عليه ما جرى بعباراتٍ موجزة وفي صلب الموضوع، ليعقب عليه بحسمٍ، وكأنه أعطاه التفويض لمتابعة ما عقد العزم على القيام به قبل سابق:
-اعمل بالأصول واللي أني وجدك ربيناك عليه.
كان ممتنًا لقراره الحكيم، وقال:
-حاضر يا بوي.
أضاف “زكريا” بعدها مؤكدًا ليشعره بالاطمئنان:
-وماتجلجش، أني هظبطلك كل حاجة إهنه.
استحسن تمهيده لهذه المسألة الحرجة بين عشيرته مرددًا:
-الله يكرمك يا بوي.
عاد والده ليوصيه مشددًا:
-خد بالك من الطريق، وامشي على مهلك، ولو الواد “وهدان” اللي بيسوج جوله يهدي.
قال في امتثالٍ مشوبٍ بالاحترام:
-حاضر يا بوي.
أخذ يدعو له بعدها بتضرعٍ:
-تجي إنت واللي معاك بالسلامة يا رب.
رد مؤمنًا عليه:
-اللهم أمين، في حفظ الله يا بوي.
أنهى معه اتصــاله وسار عائدًا إلى سيارته، حيث كانت الشقيقتان تنتظران بداخلها، وإلى جوارهما والدتهما المرهقة. جلس “غيث” في مقعد الراكب الأمامي، وتساءل وهو يمرر نظرة سريعة عليهن:
-جاهزين نكملوا طريقنا؟
في نوعٍ من التهكم المنزعج ردت عليه “دليلة”:
-هو احنا عندنا option (اختيار) تاني؟!
توقفت عيناه عليها للحظةٍ، فالتقت نظرته الحادة بنظرتها المتمردة قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا، فيما تساءل “وهدان” بتحيرٍ:
-واه، ده معناته إيه؟
ربت “غيث” على ذراعه بقليلٍ من القوة وهو يخبره باللغة التي يفهمها جيدًا:
-اتوكل على الله يا “وهدان”.
رد عليه محركًا رأسه بإيماءةٍ طائعة:
-توكالنا عليك يا رب.
…………………………………
أساليبه غير الرحيمة مع خصومه تجبرهم في نهاية المطاف على الاعتراف بما يريد معرفته، وهذا ما تم مع أتباع “الهجام” حينما احتجزوا داخل التكية. استخلص “وهبة” المعلومات المطلوبة منهم، ووجه أمره الصارم إلى رجاله للتعامل مع أمثالهم:
-يتعمل معاهم الصح، ويتسلموا للحكومة.
سأله أحدهم مستفسرًا:
-مدني ولا جنائي؟
كان يقصد بذلك في حالة العمل بالخيار الأول أن يتم تلفيق تهمة عادية، كالتسبب في اندلاع مشاجرة ما، فوقعت بشكلٍ عابر بين طرفي النزاع، لتنتهي فيما بعد بالمصالحة، وذلك من أجل تأديبهم فقط، أو اللجوء للاختيار الثاني وهو ترتيب قضية متعلقة بتهريب بعض البضائع المهربة كالمنسوجات والعطور بغرض بيعها في الأسواق دون أن يكون لها أي أوراق قانونية، وتكون بمثابة طرف الخيط لتوريط جماعة أخرى تعمل بشكلٍ مخالف وذلك لتلقينهم درسًا قاسيًا.
في بعض الأحيان قد تتطور المسائل إلى شيء أكثر تعقيدًا مثل الاتهام بالإتجــار في المواد المخــدرة، وهذا بغرض إزاحة بعض الجماعات والعشائر عن الساحة كليًا، ولا يحدث هذا الأمر إلا في الضرورة القصوى، وبعد الاتفاق مع كافة الأطراف المتورطة في خصومة كتلك.
قال “وهبة” بعد نظرة محتقرة تجاه هؤلاء الملاعين الراقدين أرضًا:
-مشيها مدني، ولو ليهم ملف عندهم يشيلوا شيلتهم هناك.
رد رجله في امتثالٍ واضح:
-اللي تؤمر بيه يا معلم.
أصدر أمره التالي إليه وهو يتأهب للمغادرة:
-جهزوا العربية، طالعين على بلد أهل “فارس”.
سار مجاورًا له وهو يخاطبه:
-ماشي يا معلم.
لتظل بعض الأعين البعيدة تراقب كافة تحركاته عن كثبٍ، حتى تبلغ بها رب عملهم فورًا بكل ما يخصه.
……………………………………..
ظل باله طوال الطريق مشغولًا بكيفية إبلاغ ثلاثتهن بمسألة اغــتيــال “فارس”، فالتمهيد لمفاتحتهن في هذا الشأن بدا بالغ الصعوبة، فقد كان يخشى من ردة فعلهن بعدما يعلمن بخسارة رجل العائلة الوحيد المسئول عنهن. غرق في صمته وفي شروده بشكلٍ واضح، لتلاحظ “إيمان” حالة الوجوم تلك، فقد اعتادت أن تسمع ثرثرته الهامسة مع تابعه بين الحين والآخر، إلا أنه منذ أن استقل السيارة بعد توقفهم للاستراحة آخر مرة وقد صار على هذا الوضع المريب، حتى مكالماته الهاتفية التي كان يجريها بين الفنية والأخرى باتت مقتضبة ومليئة بالغموض، فلم تستطع تفسير ما يدور خلالها مثل السابق.
لم تترك شكوكها تأكل رأسها بمفردها، حيث مالت على شقيقتها الصغرى لتهمس في أذنها بخفوتٍ شديد بما يجول في خاطرها:
-بقولك إيه يا “دليلة”.
سألتها الأخيرة في إيجازٍ، وبنفس النبرة الخفيضة:
-خير؟
أشارت بعينيها نحو “غيث” لتتابع هامسة:
-مش ملاحظة إن العمدة ساكت غالبية الوقت.
تحولت “دليلة” بناظريها نحوه، وأمعنت النظر في جانب وجهه الذي يظهر من ناحيتها، لتعلق بعدها بغير اهتمامٍ:
-عادي يعني.
اعترضت عليها “إيمان” بإصرارٍ غريب:
-يا بنتي بصي كويس، مكانش كده الأول.
افترضت مجازًا بأول شيءٍ طرأ في فكرها:
-جايز أهله إضايقوا لما عرفوا إننا جايين معاه.
زوت “إيمان” ما بين حاجبيها في قلقٍ، فما فاهت به يبدو منطقيًا بدرجة كبيرة، لتستكمل “دليلة” حوارها الهامس معها بشيءٍ من السخرية:
-الطبيعي الناس بترجع لأهلها بفاكهة وحلويات، لكن في حد يخش على أهله ومعاه ناس وراهم مصايب زينا.
وكزتها في جانبها معاتبة إياها:
-وده وقت هزار؟!!
ردت عليها “دليلة” بامتعاضٍ:
-هعمل إيه يعني، ما أنا قولت كده من الأول، ماينفعش نروح مع حد مانعرفوش لآخر الدنيا لمجرد إن القدر رماه في سكتنا.
هذه المرة وافقتها “إيمان” في اعتقادها، وسكتت لبعض الوقت قبل أن تقترح بنفس الصوت الخافت:
-بصي أنا عندي فكرة، أول ما نوصل بالسلامة نكلم الأستاذ “عادل”، نحكيله اللي حصل، وهو أكيد مش هيتأخر عن مساعدتنا…
تطلعت “دليلة” إليها صامتة، لتضيف شقيقتها أيضًا ما يدعم اقتراحها:
-هو وعيلته كانوا ذوق معانا جدًا، إنتي ناسية مامته كانت بتعاملنا إزاي، وشيلانا من على الأرض شيل.
هزت رأسها مؤيدة فكرتها:
-ماشي، مش هنخسر حاجة.
لتتجه “إيمان” بعينيها نحو والدتها التي سقطت غارقة في النوم بعمقٍ بعدما غلبها الإرهاق المتواصل، فهمست:
-بصي على ماما كده، يا عيني نامت من كتر التعب.
علقت عليها “دليلة” بعد تنهيدة متعبة:
-ربنا يهون عليها وعلينا، المشوار مش سهل برضوه.
أكملت “إيمان” قائلة:
-فعلًا، احنا يعتبر بقالنا يومين على الطريق، مافيش راحة خالص، وهي كبيرة في السن، مش مستحملة بهدلة السفر دي.
هتفت “دليلة” فجأة بجديةٍ:
-استني أسأله فاضلنا أد إيه بالتقريب.
اعترضت عليها شقيقتها بتوجسٍ:
-بلاش بدل ما يضايق!!
استنكرت خوفها المبالغ فيه، وعلقت باستهجانٍ:
-مافيهاش حاجة، هو سر حربي؟ دي حاجة عادية.
لترفع من نبرتها بعدها موجهة حديثها إلى “غيث”، وقد تقدمت بجسدها للأمام بعض الشيء لتبدو قريبة منه:
-يا عمدة هو فاضل كتير؟
أزعجه ذلك اللقب العجيب الذي تصر على وصفه به، ومع ذلك دون أن يحيد بنظراته عن الطريق الممتد أمامه أجابها في رسمية:
-جربنا نوصلوا البلد حدانا.
أعادت ظهرها للخلف وهي ترد باقتضابٍ:
-ماشي.
ظن من نبرتها المختصرة أنها انزعجت من أسلوبه الجاف في الحديث، فتكلم مرة أخرى بشيءٍ من الودية وهو يميل بوجهه للجانب قليلًا، مع مراعاة عدم النظر لأي من الشقيقتين، فقط أراد أن يوحي لهما باهتمامه:
-محتاجين حاجة نجيبهالكم في السكة؟ في كام استراحة على الطريق إجريب.
تولت “دليلة” الرد عليه، فخاطبته بغير ابتسامٍ:
-لأ، شكرًا.
لتضيف “إيمان” هي الأخرى كنوعٍ من المجاملة، وبابتسامةٍ باهتة:
-تسلم، احنا تمام.
لم يعلق بشيءٍ، واستغرق في صمته المشحون مجددًا، محاولًا البحث عن أيسر السبل وأسهلها لنقل الأخبار الحزينة إليهن بعدما يصل بهن إلى بلدته.
…………………………………
بمجرد أن علمت بالخبر المفجع أقامت الدنيا ولم تقعدها، راحت العمة تولول بحـــرقـــة فراق ابن شقيقها الوحيد غدرًا وأثناء دفاعه عن شــرف العائلة، بكت بتحسرٍ وألم على وفاته المباغتة، وما زاد من التياع قلبها دفـــنه بعيدًا عن مقابر العائلة. حاول “وهبة” امتصاص ما اعتراها من انفعالات مبررة بقوله المؤكد:
-هو ادفن وسط أهله بردك يا حاجة، وربنا وحده اللي عالم معزته وغلاوته عندنا كلنا.
عاتبته في لوعة، والدمع يفيض من عينيها أنهارًا:
-كنت إدينا خبر يا ابني، احنا لينا معارف كتير في البلد، الكل هيحزن عليه، وخصوصًا لما يعرفه إنه ضحى بعمره علشان يحمي بنات عمه.
قال مبديًا تفهمه لموقفها المتحيز:
-معاكي حق يا حاجة، “فارس” مايتعوضش.
سألته في لهفةٍ وهي بالكاد تحاول التقاط أنفاسها المتقطعة:
-و”عيشة” وبناتها فين أراضيهم؟ ده كان يا حبة عيني مشغول بيهم.
أخبرها في هدوءٍ، محاولًا الحفاظ على سرية مكان إقامة الثلاثة:
-اطمني، هما حدا ناس معرفتي…
ولئلا تسأله عن مكانهن شدد عليها في جديةٍ استغربت منها:
-المهم إنتي تاخدي بالك من نفسك يا حاجة، لأحسن واد الحــــرام ده مش عاتق…
قذف قلبها بقوةٍ من كلماته الأخيرة، فواصل إخبارها بغير مزاحٍ:
-لو ليكي ناس إقريبين منك اقعدي عندهم الفترة دي لحد ما ناخدوا بتارنا منه.
سكتت قليلًا وكأنها تفكر في شيءٍ ما، لتنطق بعدها بترددٍ:
-بنتي كانت عايزاني أسافرلها.
في التو أوصاها:
-ماتكدبيش خبر وروحيلها، ده أمن ليكي يا حاجة.
كان جادًا في طريقته، فعلقت باقتضابٍ وهي تكفكف عبراتها المنسابة على وجنتيها:
-ربنا يسهل.
أضاف بعد ذلك على نفس النهج الجاد:
-وأنا هسيب كام نفر من تبعي ياخدوا بالهم منك، علشان لو حصل حاجة لا قدر الله.
هزت رأسها في تفهمٍ قبل أن تعود لنواحها المتحسر:
-يا وجع قلبي على فراقك يا “فارس”.
…………………………………
تعمد استخدام أسلوب الخديعة والالتفاف عن الحقائق لصرف انتباهه عن مسعاه الفعلي، فعمد إلى نشر إشاعات غير صحيحة بشــأن تواجد عائلة المرحوم “فهيم” في بلدته لإبلاغ بقية الأقارب والمعارف عن وفاة “فارس”، لتتناقل الألسن هذه الأخبار المغلوطة وتصل إلى أحدٍ بعينه، فهرع “عباس” إلى “زهير” في مكتبه بالمطعم ليخبره في الحال:
-حصل اللي إنت قولته يا كبيرنا، و”وهبة” راح عند قرايب “فارس” في البلد اللي عايشين فيها، ورجالتنا سمعوا كلام داير إنهم موجودين كلهم هناك.
في التو انتفض قائمًا من على مقعده، دفعه للخلف واندفع مصدرًا أوامره:
-جهزلي مجموعة تطلع معايا، أنا لازم أروح أجيبها بنفسي.
بشيءٍ من التعقل تدخل “عباس” قائلًا، وكأنه يحاول كبح اندفاعه غير المدروس:
-نتأكد بس إنها موجودة يا ريسنا، وبعد كده تتحرك بنفسك، لأحسن يكون كمين، إنت عارف “وهبة” مش سهل.
صمم على رأيه بعنادٍ أكبر، وغير مبالٍ بتبعات قراره:
-مش هايجي أذكى مني.
لم يجد بدًا من معارضته أمام إصراره، فرضخ لمطلبه هاتفًا بخنوعٍ:
-ماشي كلامك يا كبيرنا.
لينطلق بعدها نحو الخارج، ومن ورائه “عباس” يستمع بإنصاتٍ لكافة أوامره قبل يتجه نحو الجراج ليستقل سيارته قاصدًا الذهاب فورًا إلى تلك البلدة.
………………………………..
بناءً على المعلومات السابقة، والمعلومات المستجدة الواردة للجهات الأمنية، تحركت فرق قوات الشرطة نحو المخازن المملوكة لجماعة “العِترة” لتقوم بمهاجمتها، ومصادرة كافة ما فيها من مواد وأشياء مخالفة ومهربة، ليطير الخبر المشؤوم إليه وهو جالس وسط أقرانه يدخن النارجيلة، فهب واقفًا ليصرخ في اهتياجٍ:
-عملها ابن الأبالســـة.
ركل بقدمه في عنفٍ الطاولة المرصوص عليها طعامه وشرابه، لتعيث الفوضى من حوله، وصوت وعيده يجلجل:
-قسمًا بالله لأندمه وأخسره كل اللي عمله.
مدفوعًا بشياطين رأسه الغاضبة راح يصول ويجول صائحًا في هياجٍ متزايد:
-فاكرني زي المرة اللي فاتت هسكت! وربنا ما يحصل، ده على جثتي!!!
تدخل أحدهم لإيقافه راجيًا:
-اهدى يا ريس.
تجاهله عن عمدٍ ليصيح ملقيًا أوامره على الجميع
-جهزولي الرجالة أوام، هنجيب ناهية الكلب ده.
رد عليه أحد أتباعه في انصياعٍ قبل أن يهرول نحو الخارج لتلبية مطلبه:
-وجب.
…………………………………..
لولا ارتفاع مستوى السيارة عن الأرض لعانى الجميع من الاهتزازات المتواترة الناتجة عن السير على التعرجات والنتوءات الظاهرة على طول ذلك الطريق الترابي، والذي أفضى في نهايته إلى تحويطة من الأشجار العالية خلف سور حجري مرتفع يصل على أقل تقدير لثلاثة أمتار.
اندفع عدد من الخفراء والحرس نحو السيارة حينما اقتربت من البوابة الحديدية العريضة، ليصيح أحدهم مهللًا في ابتهاجٍ:
-حمدلله على السلامة يا سعادت البيه، الناحية نورت بوجودك.
دون أن يبتسم “غيث” خاطبه وهو يلوح بيده له:
-تسلم.
أضاف وكأنه يعلمه بما يجري داخل القصر:
-البيه الكبير مستني سعادتك من بدري.
أوجز في رده عليه:
-عارف.
ليبطئ “وهدان” من سرعة السيارة وهو يعبر البوابة ليمر على طريق حجري قبل أن يصفها بمواجهة ذلك القصر المهيب.
لم تكن قد رأت مثيل ذلك القصر الضخم على أرض الواقع سوى فقط في المسلسلات التلفزيونية التي تتابعها. تدلى فك “عيشة” للأسفل وهي تحاول رؤية نهاية ارتفاعه من خلال نافذتها، لتشاركها “إيمان” نفس حالة الانبهار الواضحة، فيما ظلت “دليلة” عازفة عن إبداء اهتمامها بأي شيء يحدث من حولها.
ترجل “غيث” من سيارته، ليهرع نحو والده الذي كان يقف في انتظاره بصحبة عمه “راشد” مستندًا على عكازه، أمام باب القصر الخشبي العريض. في التو أحنى رأسه على يده ليقبله أولًا في تبجيلٍ ثم اعتدل في وقفته لينظر إليه وهو يخاطبه:
-حمدلله على السلامة يا ولدي.
ابتسم قائلًا بهدوء:
-الله يسلمك يا بوي.
فيما سأله “راشد” باهتمامٍ، ونظراته الفضولية تتجاوز كتفيه لتصل إلى من بداخل السيارة:
-كيفك يا ابن خوي؟
أجابه وهو يراقب نظرته الحائرة تلك:
-بخير يا عمي.
ليتساءل “زكريا” بنبرة ذات مغزى:
-هما دول الجماعة؟
أومأ “غيث” برأسه مؤكدًا:
-أيوه يا بوي.
لم يحبذ “راشد” أن يبقى في موضع الجاهل، حيث غلبه فضوله، فتساءل وهو يحاول تدقيق النظر فيمن لا يزال جالسًا بالمقعد الخلفي:
-بتتكلموا عن مين يا حاج “زكريا”؟
رد عليه شقيقه الأكبر بملامحٍ جادة وهو يطرق بطرف عكازه الأرضية:
-هفهمك بعدين…
ثم التفت برأسه نصف التفافة ليأمر الخادمة الواقفة على مسافة قريبة منه:
-نادم يا به على الحاجة الكبيرة تَجي ترحب بالضيوف.
هتفت “سنية” في طاعة:
-حاضر يا سيدي البيه.
واندفعت ركضًا نحو الداخل لتستدعي سيدة القصر لاستقبال الضيفات.
لم تنتظر “عيشة” السماح لها ولابنتيها بالنزول من السيارة، فبادرت بالترجل من تلقاء نفسها، لتتبعها كلًا من “إيمان” و”دليلة”، لكن الاثنتان بقيتا بجوار السيارة، فيما توجهت والدتهما نحو ذلك الرجل المهيب في طلته ذي الجلباب الأسود والقفطان البني لتُحييه:
-سلام عليكم، إزيك يا حاج؟
رمقها “زكريا” بنظرة عادية قبل أن يخفض بصره ليقول بلا ابتسامٍ:
-بخير والحمدلله يا ستنا.
تنحنحت متابعة في شيءٍ من الحرج وهي تشير بيدها:
-احنا أسفين يا حاج عملنالكم قلق ودوشة، ومكانش يصح إننا نيجي كده من غير معرفة سابقة.
عاتبها دون أن يرفع من نبرته:
-ماتجوليش إكده، ده إنتو من طرف “وهبة”، وده في معزة ابني “غيث”.
مالت “دليلة” على شقيقتها لتسألها في صوتٍ هامس مستنكر:
-هو احنا أصلًا نعرف “وهبة” ده؟
على الفور حذرتها “إيمان” بشيءٍ من الارتباك:
-ششش، وطي صوتك يا “دليلة”، الناس شكلها هنا ما بيهزروش.
سرعان ما طافت على أوجه الخفراء المجتمعين على مقربة منهما لتتأكد من سبب توتر شقيقتها، وغمغمت في سخرية خافتة:
-خط الصعيد والكلام ده.
أتت من الداخل سيدة تتلحف بعباءة سوداء، وملحفة مماثلة في اللون، تبدو على مشارف الستينات من العمر، أقبلت على الضيفة التي تجهل هويتها إلى الآن لترحب بها في حفاوةٍ، وهذه البشاشة تطل من وجهها:
-يا مرحب بأهل البندر معارف “وهبة”.
احتضنتها لأكثر من مرةٍ مقبلة كل وجنة لعدة مراتٍ، و”عيشة” تخاطبها في تحرجٍ:
-أهلًا بيكي يا حاجة.
تعاملت معها بألفةٍ غير معهودةٍ:
-منورين المطرح.
ردت عليها بخجلٍ:
-المكان منور بأهله، واحنا والله ما عارفين نقول إيه يعني على الـ….
قاطعتها قبل أن تتم جملتها رافعة سبابتها في الهواء:
-جسمًا بالله لو جولتي حاجة زي إكده ما هيحصل خير واصل، ده إن ماشلتكوش الأرض نشيلكم فوج راسنا.
قالت في امتنانٍ وهي تستخدم يدها في الإشارة:
-كتر خيرك، أنا اسمي الحاجة “عيشة”، ودول بناتي “إيمان” و”دليلة”.
سرعان ما حولت نظرتها المهتمة نحوهما لتقول في استحسانٍ:
-ماشاءالله عليهم، ربنا يخلي ويبارك فيهم.
ليتولى “زكريا” التعريف بهويتها في تقديرٍ:
-دي الحاجة “فاطنة” مَرتي، وأم “غيث” ابني الكبير، بنادم عليها ست الحاجة “أم غيث”.
عاودت “عيشة” إظهار امتنانها لاستقبالها الودود:
-اتشرفنا يا حاجة بيكي.
هتفت “فاطمة” قائلة داعية ضيفاتها للدخول:
-مايصحش هنفضلوا واجفين إكده، تعالوا جوا ارتاحوا، إنتو جايين من على سفر كبير.
هزت رأسها مرددة ببسمةٍ صغيرة:
-تسلمي وتعيشي…
ثم استدارت تنادي على ابنتيها:
-تعالوا يا بنات.
تحركت الاثنتان صاغرتين خلف والدتهما، واستمعتا إلى صوت “فاطمة” المرحب بثلاثتهن:
-منورين القصر واللي فيه.
فيما حدجهم “راشد” بنظرة ثاقبة غير مريحة، ليتساءل في انزعاجٍ معكوس على ملامحه:
-الحريم دول يبجوا مين يا حاج “زكريا”؟
لاذ الأخير بالصمت لتتضاعف حيرته أكثر، فأفصح عما يجوس في ذهنه بنبرة موحية بالشك والارتياب:
-وخصوصًا إن احنا عارفين أصل وفصل الواد “وهبة” …………………………………… !!!
…………………………………….

أترك تعليقا

مشاركة
اجمل الروايات الرومانسية الجريئة الكاملة pdf للكاتبه زهرة الربيع
تحميل رواية رغبات مظلمة (+18) للكاتبة ساشا ييتس | دراما رومانسية نفسية تكشف أسرار الرغبة والضعف الإنساني
مشابه